عندما يتسلل الفساد برموز جنوبية

2025-09-11 17:38

 

المستقبل لا يُمنح من وراء الحدود ولا تقرر مصيره بيانات المبعوثين الدوليين، ولا يُصاغ بالسمسرة في ردهات الفنادق والغرف الخلفية. المستقبل مشروع تُنجزه الشعوب من خلال قيادات وطنية يشهد لها بالنزاهة، مدركةٌ أن مصير شعبها يُكتب بأيديها وعقولها. والجنوب اليوم على أعتاب مفرق حاسم: إما مشروع دولة تُبنى بالمؤسسات والسيادة والعدالة وقيادة عابرة للمناطق الجنوبية، أو إعادة إنتاج لوهم الاستقلال عبر شعارات براقة لا تحجب فشل تلك القيادات.

 

المفارقة أن خصوم الجنوب ومشروعه الوطني منهم جنوبيين لم يغادروا المشهد، بل غيّروا مقاعدهم فحسب بعدما أمعنوا في اليمننة، يرفعون راية الاستقلال بيد، بينما اليد الأخرى موغلة في الفساد والمحسوبية، يملؤون الفضاء السياسي بحديث الوطنية، فيما ينسجون في الظل شبكات فساد مالي وتجارة الأراضي وزبانيته لا تقل خطرًا عن أي تهديد خارجي. إنهم الوجه الآخر للأزمة، يتزينون ببدلات رسمية وخوذ عسكرية، بقدرات أشد وطأة على الداخل الجنوبي.

 

إن أخطر ما يهدد مشروع الدولة ليس العدو الحوثي واليمني الذي يقف على الحدود، بل الفساد الذي يجلس على الكرسي في عدن، فالمحتل يمكن مواجهته بالمقاومة، أما الفساد من قيادات جنوبية أصبح يُعيد إنتاج نفسه كأنه قدر أبدي، يطل كل مرة بوجوه مألوفة وشعارات متجددة. هنا تصبح المعركة الحقيقية: ليست معركة جغرافيا فحسب، بل معركة ضد ثقافة سياسية تحوّل الوطن إلى غنيمة.

 

لن يُبنى استقلال ثانٍ بأدوات الاستهلاك السياسي نفسها، ولن يُؤسَّس عقد اجتماعي جديد بوجوه استهلكها الفساد والتبعية. الدولة ليست لافتة على مبنى، بل منظومة عدل ومحاسبة وتكافؤ. ومن دون قطيعة واضحة مع هؤلاء الأغنياء الجدد من الفاسدين، سنظل نعيد صياغة المأساة بشكل جديد، لكن بمحتوى لا يختلف كثيراً.

 

لقد دفع الجنوبيون ثمناً باهظاً في ميادين المقاومة والنضال. وتلك التضحيات ليست صك على ملكية القرار الجنوبي لمن يريد موقعاً، بل عهدٌ يلزم بتحويل السياسة إلى مسؤولية، والمؤسسات إلى أدوات للحكم الرشيد. ومن يتعامل مع الدماء كرصيد شخصي، إنما يكرر خطايا الخصوم بلغة أخرى.

 

التاريخ لا يحفل بالنيات، بل يحفظ النتائج. والجنوب أمام فرصة تاريخية لن تنتظر طويلًا: إما أن تتحول الإرادة إلى مؤسسات ومحاسبة، أو أن يُكتب في سجل الأجيال القادمة أن الجنوب امتلك الفرصة وأهدرها.

 

المعركة الحقيقية اليوم هي معركة وعي: معركة ضد الفساد بقدر ما هي ضد التبعية، وضد إدمان الانتظار على موائد الآخرين. فالدولة لا تُبنى بالوعود ولا بالشعارات، بل بإرادة حرة قادرة على تحويل التضحية إلى مشروع، والمشروع إلى واقع، والواقع إلى مستقبل لا يُصادر.