في محطات التاريخ الفاصلة، حيث تتشكل مصائر الشعوب من رماد الحلم ولهيب التضحية، يتسلل الى الاذهان تصور غالبا ما يختلط فيه الحابل بالنابل، وتتداخل فيه الأدوار حد اللبس. انه الخطا الفادح الذي يرى في كل بطل ميدان قائدا للدولة، وفي كل من حمل السلاح مهندسا للمستقبل في حين ان للثورة روحها ورجالها، وللدولة كيانها ورجالها ايضا، وهيهات ان تتطابق المهام او تتداخل المسارات بلا وعي او تمييز بين الثورة والدولة
الثورة، هي شرارة الغضب المقدس، وصرخة الرفض في وجه الظلم، واندفاعة الروح نحو الحرية. رجالها هم وقود التحول، وفرسان اللحظة الحاسمة، من يمتلكون الشجاعة لكسر القيود، والتضحية بكل غالي ونفيس دون تردد او.مقابل. انهم بناة الفجر، ومحطمو الاصنام، ولكن طبيعة مهمتهم تقتضي غالبا تفكيرا ثوريا، تدميريا للبنى القديمة. فهم من يوقظون الجماهير من سباتها، ويدفعونها نحو التغيير الجذري، غير مكترثين بالتبعات الدقيقة او التعقيدات الادارية.
اما الدولة، فهي صرح البناء، وكيان الاستقرار، وعصب الاستمرارية. رجالها هم مهندسو العمران، وحراس النظام، وسدنة المستقبل. يمتلكون الحكمة والصبر، وبعد النظر والقدرة على ادارة التعقيدات، وصياغة القوانين، وبناء المؤسسات. مهمتهم تتطلب رؤية استراتيجية، ومهارات ادارية دقيقة، وقدرة على التوفيق بين المصالح المتباينة، لا مجرد الاندفاع العاطفي او الحماس اللحظي. فهم الذين يحولون الفوضى الى نظام، والالهام الى خطط عمل، والامال الى واقع ملموس.
ومن هنا، يتجلى الفارق الجوهري. فمن يخوض غمار الثورة بكل ما فيها من فوضى منظمة واندفاع عارم، قد لا يمتلك المؤهلات اللازمة لخوض غمار الدولة بكل ما فيها من ترتيب دقيق وتخطيط محكم. فمهارات القتال تختلف عن مهارات الادارة، وشجاعة المواجهة لا تعني بالضرورة براعة التخطيط الاقتصادي او الدبلوماسي. والعكس صحيح في كثير من الاحيان، فمن ابدع في بناء المؤسسات قد لا يكون بالضرورة الاكثر قدرة على قيادة الجماهير في لحظات الثورة الحاسمة.
غير ان هناك واجبا مقدسا لا يختلف عليه اثنان، ولا يسقط عن كاهل اي مواطن مقتدر: انه الدفاع عن الوطن، والنضال من اجل تحريره واستقلاله. هذا واجب حتمي، بل فرض على كل من يمتلك القدرة على العطاء والبذل والتضحية وهو ليس خيارا، بل هو جوهر الانتماء، وروح المواطنة الحقة. فمن يدافع عن وطنه ويضحي بالغالي والرخيص في سبيل حريته وكرامته، انما يؤدي فريضة لا ينتظر من ورائها جزاء ولا شكورا، بل يبتغي وجه الوطن وكرامة ابنائه.
لكن، هنا ياتي التمييز الدقيق الذي يجب ان نكون صريحين فيه.حيث يجب ان نفرق بوضوح بين من يناضل من اجل الوطن، لا يبتغي سوى الحرية والكرامة لشعبه وارضه، وبين من يتخذ من النضال مطية للوصول الى السلطة، او وسيلة لتحقيق مصالح شخصية تحت شعار التحرير والدفاع عن الوطن. فليس كل من يناضل ويضحي من اجل وطنه يجب ان يكون حاكما او قائدا او مسؤولا في السلطة.
المعيار الحقيقي للحكم وادارة الدولة ليس الرصيد النضالي للمواطن فحسب، وانما الجدارة والكفاءة والخبرة. فبينما الانخراط في الثورة او عملية النضال لا يتطلب سوى الانتماء والولاء المطلق للوطن وقضيته، فان الانخراط في ادارة الدولة يتطلب معايير مختلفة تماما، لا تنطبق على الجميع. هي معايير تقتضي علما، وتخصصا، ورؤية، وقدرة على التنفيذ والادارة الرشيدة، بعيدا عن العاطفة او ردود الافعال اللحظية التي تمتاز بها مرحلة الثورة.
ان تصور ان كل مناضل يجب ان يكون قائدا في الدولة او مسؤولا فيها، هو تصور مغلوط يؤدي الى الفوضى، والا لاصبح الشعب كله حكاما وقادة بلا محكومين او اداريين متخصصين. فمن يناضل من اجل السلطة، هو في الحقيقة لا يناضل من اجل الوطن، بل من اجل مصلحة ذاتية بحتة. ومن يطالب بالاجر والمقابل والثمن لنضاله كيف يمكن ان يكون وطنيا حقا؟ فالوطنية الحقيقية هي عطاء بلا حدود، وتضحية بلا ثمن، هدفها الاسمى رفعة الوطن وسعادة ابنائه، لا مكاسب شخصية او مناصب زائلة.
ان الوطن يستحق منا جميعا وعيا عميقا لهذه الفروقات الجوهرية. فالثورة هي لحظة الميلاد، والدولة هي مسيرة الحياة. وكلاهما يحتاج الى رجاله الاكفاء، ولكن بمهام مختلفة واهداف متمايزة. فلتكن ثورتنا منارة للحرية، ولتكن دولتنا صرحا للعدل والتقدم، ولتكن قياداتنا نابعة من الجدارة والكفاءة لا من سجل التضحية وحده، لان الوطن يستحق الافضل في كل مرحلة من مراحل وجوده.