هل يمكن لخمسة عقود من الرماد أن تُخمد فكرة اشتعلت في وجدان أمة، أم أن الغياب نفسه يتحول، بمرور الزمن، إلى شاهد إثبات على عمق الأثر وقسوة الفقد؟ فذكرى وفاة الرئيس "جمال عبدالناصر" ليست مجرد ذكرى عابرة لرحيل زعيم، بل هي وقفة فلسفية أمام مفهوم القيادة التاريخية والخسارة الاستراتيجية التي لا تقتصر تبعاتها على جيل واحد. ففي هذه اللحظة، التي تُنكس فيها الرؤوس وتُرتدى فيها ثياب الحزن الأسود، لا يمكننا إلا أن نستحضر قامة جمال عبد الناصر، الزعيم العربي العملاق الذي لا يتكرر، ليس كشخصية سياسية رحلت، بل بوصفه مشروع أمة وباعث كرامة لا يزال صداه يتردد في أعمق طبقات الوعي الجمعي.
إنّ المأساة الحقيقية في تاريخ الأمم تكمن في الفراغ الذي يخلفه رحيل القادة المؤسسين قبل إتمام بناء صرحهم. وخمسة عقود مضت على رحيل عبد الناصر، كانت كافيه لشطب اسمه من صفحات التاريخ مع مارافقها من محاولات جادة لشطبها من قبل قوى الاستبداد العالمية إلا انه وفي كل يوم يمر، كانت تتفاقم الحاجة إليه، لا كشخص، بل كرمز للمقاومة وتجسيد للإرادة الوطنية المتحررة. فما مات منه بالجسد لم يمت بالفكرة، وما فني منه بالشخص لم يفن بالمشروع. فقد بقي حيا في قلوب الجماهير، وعايشًا في وجدان الأمة التي توارثت حسرة رحيله الماجئ قبل أوانه وقبل أن يكمل رسالته في توحيد الصف وتثبيت أركان الاستقلال الحقيقي بعيدًا عن ربقة التبعية.
فمشروع عبد الناصر لم يكن محليًا أو إقليميًا؛ بل كان مصدر إلهام لكل الأمم والشعوب الحرة الساعية للتحرر من الهيمنة. ولذا، لم يكن رحيله خسارة للعرب وحدهم، بل امتد تأثيره ليشمل الحركات التحررية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وهذا يذكرنا بمقولة الفيلسوف الإغريقي أفلاطون: "إنّ العدل لا يكون إلا بوجود النموذج، وإنّ النموذج لا يموت بموت الجسد". وعبد الناصر كان ذلك النموذج، الذي لم يغب عن الذاكرة رغم محاولات الطمس، بل بقي حاضرًا في كل المراحل اللاحقة، تُرفع صوره، ويُقتدى بفكره، ويُسترشد بسيرته في كل محفل سياسي أو ثوري يرفض التفكك والهوان والانبطاح الذي خيم على الأمة العربية من بعده.
ومن أشد مظاهر الواقعية التاريخية غرابة أن يبقى الخوف من الموتى حاضرًا وفاعلًا. فبعد خمسة عقود من وفاته، على يد الغدر والخيانة، ما زال أعداء عبد الناصر، وهم في الحقيقة أعداء الأمة العربية والحرية والكرامة، يخشون منه.اذ إن رهبة الصورة وفزع الذكرى ليس سوى اعتراف ضمني بقوة الفكرة التي لم تُهزم بعد. فهم يخشون أن يتكرر مرة أخرى، أو أن تنجب الأمهات زعيمًا يستلهم من تاريخه، لأن ذلك يعني بالضرورة انتهاء عصر الهيمنة والتبعية الذي أسسوه بعد رحيله. ولهذا، ليس غريبًا أن يتم رصد الميزانيات الضخمة بالمليارات لتشويه تاريخه وتزييفه، في عملية ممنهجة لإعدام الرمز، ظنًا منهم أن قتل الرمز يقضي على الإمكانية الثورية الكامنة في الذاكرة.
هذا السلوك يجد نظائره عبر التاريخ؛ فبعد رحيل تشي جيفارا، استمرت الجهود الإعلامية لتصويره كشخصية متهورة وغير واقعية، خوفًا من ان تتحول صورته إلى أيقونة ثورية عالمية. وهذا يؤكد حقيقة ثابتة ان الزعيم الذي يخيف أعداءه بعد موته هو الزعيم الذي لم يهزم قط في حياته.
وعندما نتحدث عن جمال عبد الناصر، فإننا نتحدث عن ظاهرة تاريخية فريدة تتجاوز المقاييس المعتادة. فالتشييع الملحمي الذي شهده العالم، حيث خرج عشرة ملايين من الشعب المصري في القاهرة وحدها – وهو رقم يمثل نصف إجمالي سكان مصر حينها (الذي كان يقارب 25 مليونًا) – ليس مجرد رقم، بل هو استفتاء جماهيري عفوي لم يحدث لاي زعيم مثله لا من قبل ولا من بعد ولم يوثق التاريخ تشييعا لزعيم بهذا الحجم. وهذا الحشد الهائل الذي أتى من كل المحافظات المصرية، بالتزامن مع خروج الجماهير للتعبير عن حزنها في كل العواصم العربية والأفريقية، وحتى في أمريكا الشمالية، هو دليل مادي لا يقبل الجدل على عمق الارتباط الروحي وصدق القضية التي كان يحملها.
هذا الإجماع الشعبي، الذي يذكرنا بتشييع المهاتما غاندي في الهند أو حتى فيكتور هوغو في فرنسا، ولكنه يفوقهما بالعدد والتأثير الإقليمي والدولي، هو الذي يمنح عبد الناصر الخلود في وعي الأجيال. ويجعل اسمًه مشعًا في سجلات التاريخ، لا بفضل انتصارات عسكرية دائمة، بل بفضل انتصار الإرادة وتأصيل الكرامة في وجدان أمة كانت تئن تحت وطأة الاستعمار والتبعية. وما دام هذا الحضور في الذاكرة، سيظل المشروع ناصعًا، وستبقى الحاجة إلى عبد الناصر، كفكرة ورمز، تتزايد مع كل انكسار.فحين يظل الزعيم خالدًا، لا في التماثيل والميادين فحسب، بل في قلوب الجماهير وميزانيات الأعداء، فهذا يعني أننا أمام قوة أيديولوجية لا يمكن القضاء عليها بالرصاص أو الزمن، بل بالبديل الموضوعي القادر على تحقيق الكرامة التي حلم بها. وعليه، فإن الحاجة إلى قراءة عبد الناصر اليوم لا تكمن في الحنين للماضي، بل في استخلاص المنهج لبعث المشروع الذي اغتيل معه. فالفكرة العظيمة لا تموت؛ إنها فقط تنتظر اللحظة المناسبة لتنهض مجددًا من الرماد.