في مشهد يثير الدهشة والاستغراب، يواصل بعض الإخوة اليمنيين، وفي مقدمتهم الرئيس رشاد العليمي وكثير من القيادات السياسية والعسكرية المقيمة خارج الوطن، اعتماد خطاب متعالٍ ومستفز تجاه الجنوبيين، خطاب لا يخلو من التحدي والكبر، رغم أن موازين الواقع على الأرض تقول عكس ذلك تمامًا.
فالجنوبيون اليوم ثابتون على أرضهم، لم يتزحزحوا، ويمتلكون قوات مسلحة جنوبية قوية ومنظمة، أثبتت حضورها وقدرتها في أصعب الظروف، ونجحت في تأمين الأرض وحماية المؤسسات وفرض معادلة أمنية لم تكن قائمة من قبل. ومع ذلك، نسمع خطابًا من خارج الجغرافيا، ومن خلف شاشات الفنادق والعواصم البعيدة، يتحدث بلغة الوصاية وكأن شيئًا لم يتغير.
الأكثر غرابة في هذه المعادلة، أن الرئيس رشاد العليمي نفسه كان يقيم في قصر المعاشيق تحت حماية القوات الجنوبية، يتحرك بأمنها، ويستمد وجوده الفعلي من استقرار وفره له الجنوبيون، لا من قوة ذاتية أو نفوذ حقيقي على الأرض. ومع ذلك، ينقلب الخطاب لاحقًا إلى نبرة تعالٍ واستفزاز، في مفارقة سياسية وأخلاقية يصعب تفسيرها.
إن من يقرأ المشهد بموضوعية يدرك أن من هم اليوم في الخارج، سواء من القيادات السياسية أو العسكرية، يعيشون أضعف مراحلهم من حيث التأثير والقرار والقدرة، بينما الجنوب يعيش مرحلة تثبيت للواقع وبناء للمعادلة، لا بالصوت العالي ولا بالشعارات، بل بالفعل الميداني.
الخطاب المتعالي لا يصنع شرعية، والاستفزاز لا يعيد نفوذًا مفقودًا، والتحدي اللفظي لا يغير حقائق الجغرافيا ولا ميزان القوى. بل على العكس، مثل هذا الخطاب يكشف حجم الانفصال بين من يتحدثون من الخارج، وبين الواقع الحقيقي الذي يعيشه الناس على الأرض.
لقد تجاوز الجنوب مرحلة الرد على الاستفزازات، وانتقل إلى مرحلة ترسيخ الأمر الواقع، وبناء مؤسساته، وتأمين أرضه، وهو ما يجعل أي خطاب متعالٍ، مهما ارتفعت نبرته، بلا أثر فعلي.
إن الحكمة السياسية تقتضي مراجعة الخطاب، والاعتراف بالمتغيرات، واحترام إرادة الناس على أرضهم، لا الاستمرار في خطاب لم يعد له رصيد إلا في الذاكرة. فالتاريخ لا يرحم، والواقع لا يجامل، ومن لا يقرأ اللحظة جيدًا، سيظل أسير أوهام انتهى زمنها.