لم تكن وحدة 1990 تحقيقاً لحلم الجنوبيين، بل كانت الفصل الأخير في مأساة بدأت بحماقات النخب القومية والاشتراكية في الستينيات، التي نكّلت بالشعب الجنوبي وأذاقته المرّ، ثم أقدمت على إقحامه في "وحدة" ظالمة لم يزل يعاني منها حتى اليوم. لقد ضُيع الجنوب العربي، بحدوده التاريخية ومؤسساته الدولة، على مذبح الشعارات الثورية المستوردة وتجارب الهندسة الاجتماعية القسرية.
بين أرشيف الماضي وخريطة الحاضر، تقف مأساة الجنوب العربي شاهداً على إخفاق النخب التي اختارت أن تبدأ من الصفر، لا لتبني وطناً، بل لتجرب على أبنائه كل النظريات الراديكالية المستوردة من عواصم الأيديولوجيا.
فقد كتب الناشط أحمد شداد، في تغريدة لافتة، موضحاً جذر الكارثة: "لو أن القيادات الجنوبية آنذاك تمسكت باتفاقيات الخط الأزرق والخط البنفسجي، وبـ مسودة استقلال الجنوب العربي كما أقرّتها الإدارة البريطانية ضمن إطار الكومنولث، لكان مسارنا مختلفًا تمامًا."
هذه لم تكن مجرد افتراضات، بل كانت خياراً حقيقياً ضُيّع بإرادة.
"كنا سنبني دولة الجنوب العربي وفق قانون ويستمنستر الذي أنشأ دولًا مستقلة من سنغافورة إلى جامايكا، دول قامت على المؤسسات لا على الشعارات، وعلى العقل لا على الهتاف."
لكنّ "النخبة القومية والاشتراكية في ذلك الزمن قررت أن تبدأ من الصفر، لا لتصنع وطنًا جديدًا، بل لتُجرّب فينا كل النظريات الثورية والراديكالية المستوردة من القاهرة وموسكو وصنعاء!"
من التحرير المزيف إلى تأميم الهواء!
هكذا "ضاع الجنوب بين الشعارات: من 'تحرير الإنسان' إلى 'تأميم الهواء'، ومن 'الوحدة العربية' إلى 'الوحدة اليمانية'، حتى تحوّل الحلم إلى كابوس، والوطن إلى ساحة تجارب أيديولوجية لا تنتهي."
لقد تم إسقاط كيان دولة حديثة، كانت قائمة بمؤسساتها قبل قيام العديد من دول الجوار، لتحل محلها "جمهورية الشعارات". "ولو أنهم تمسكوا بخط الاستقلال المدني والمؤسسي، لكان لدينا اليوم نظام دولة ومؤسسات كانت قائمة قبل أن تقوم دول الخليج نفسها."
النتيجة كانت كارثية: "لكنهم أسقطوا دولة حديثة لتأسيس جمهورية شعارات، فخسرنا السيادة، والهوية، والاقتصاد، وحتى معنى الدولة."
الطامة الكبرى: بيع الوهم من جديد
والأكثر إيلاماً أن الدائرة لم تنغلق بعد. "والطامة أننا اليوم، بعد ستة عقود من الدوران في نفس الحلقة، ما زلنا نُباع ونُشترى باسم 'مشروع الاستقلال' و'استعادة الدولة'، بينما الخدمات معدومة، والرواتب مفقودة، والسيادة في المنفى."
إنها الحكاية ذاتها تتكرر: نخب تقدم الوهم بديلاً عن بناء المؤسسات، وتستبدل إرث الدولة بالخطب الحماسية.
لقد صدق من قال: "التاريخ لا يرحم من ظن أن الثورة بديل عن الدولة، ولا من جعل الحلم الوطني ملعبًا للمراهقة السياسية التي لم تبلغ الرشد حتى اليوم."
فهل نتعلم من الدرس أم نعيد تدوير المأساة؟