اشتعلت المعارك الكلامية بين دعاة التيارات السلفية ورموز المدرسة الصوفية الأشعرية في القاهرة، خلال الساعات الماضية في ظل قيام مجموعة من طلاب الأزهر الشريف يتقدمهم الدكتور محمد إبراهيم العشماوي، أستاذ الحديث بجامعة الأزهر، بزيارة مقام القطب الصوفي، السيد أحمد البدوي في مدينة طنطا.
وانتهزت "التيارات السلفية" الواقعة الأخيرة، لشن موجة من التكفير والتجهيل لمشايخ الأزهر الشريف، (الممثل الرسمي للمذهب الأشعري)، والطعن في عقيدتهم ومنهجهم، فضلاً عن استغلالها كفرصة للتعبير عن غضبها من التحولات الحادثة في المشهد السياسي، محلياً وعربياً وإقليمياً من دعم المدرسة الصوفية الأشعرية وتفضيلها على أتباع حركات الإسلام السياسي، التي تمثل الحاضنة الرئيسية في المنهج الـ"داعشي".
ثمة مظاهر جلية للدولة المصرية، من الاهتمام بالمدرسة الصوفية الحديثة المنضبطة تشريعاً وفقهاً، وتمكينها مجتمعياً، واستثمارها عملياً في تحجيم مشروع الجماعات المتطرفة، المتداخل مع مسارات التقسيم الجغرافي، ومحاولات استبدال الهوية الفكرية والثقافية، فضلاً عن تنفيذها لمشروع تطوير مساجد ومقامات آل البيت، التي تمثل العلامة البارزة في علاقة الارتباط النفسي والروحي لدى مريدي الطرق الصوفية.
التمركزات الفعلية للتيارات السلفية انتقلت إلى "العالم الافتراضي"، عبر بناء المراكز والأكاديميات البحثية التي تعمل على إدارة ماكينة التأثير الفكري والسيطرة على السلوك الظاهري في الدوائر الشعبية، في ظل تخوفها الدائم من تقلص مساحة نفوذها وخطوط اتصالها الخارجية، رغم حجم التمويل والدعم غير المتناهي.
عشرات المراكز البحثية المعتمدة لدى "التيارات السلفية"، انبرت كلها مؤخراً، إلى تقديم الأبحاث الفقهية المطولة التي تطعن بالمذهب الأشعري، مع تفعيلها "اليوتيوبر السلفي" المعني بالاشتباك مع المدارس الصوفية وممثليها القدامى والمعاصرين، ودورهم الفاعل في العمق المجتمعي.
ينتاب "العقلية السلفية" حالة من هواجس التراجع الشعبي، مع بروز دور المدرسة الصوفية الحديثة، وتغلغلها الملحوظ في الشارع المصري على مدار السنوات الأخيرة، وتمتعها بقبول مجتمعي واسع واحتوائها لقطاعات شبابية عريضة، في ظل ارتباط وتشبع الأطر الفكرية والحركية للجماعات المتطرفة، بالمنهجية السلفية التقليدية والنصية، مع تداعيات الأفول الأخير لمشروع الإسلام الحركي.
وفي كتابه "نقد الخطاب السلفي"، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة في 2017، يشير الدكتور محمد حافظ دياب، إلى أن "التيارات السلفية" وظفت عقيدتها وحولتها إلى أيديولوجيا بتوسع أنصارها في الشق السياسي لمفهوم "التوحيد" من خلال "الحاكمية"، وفي الشق الاجتماعي من خلال "الجاهلية"، ومن الناحية الحركية العملية عبر مفاهيم (الجهاد، والجماعة والطليعة)، والتي أسست لخطاب تيارات العنف والتكفير في التاريخ المعاصر.
الكثيرون يعتبرون أن الحركة الصوفية الحديثة تمثل محور ارتكاز في مشروع القضاء على الشطط الفكري والتفلت السلوكي الديني، المدعوم من تيارات السلفية الجهادية، القائم على المخرجات والإشكاليات الفقهية لابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.
وانزعجت "التيارات السلفية" من المفاصلة الفكرية التي يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مع مذهب محمد بن عبد الوهاب، والتي ترجمت فعلياً من خلال خطابه المتضمن لرسائل هامة في آذار (مارس) 2022، مصرحاً بأن مذهب محمد بن عبدالوهاب لا يمثل المملكة العربية السعودية، وأنه مجرد داعية وليس رسولاً، وأنه لا يمكن لشخص أن يفرض مذهباً محدداً ومعيناً على المملكة العربية السعودية.
استبدال المملكة العربية السعودية للمذهب السلفي بالمذهب الأشعري، يتم بشكل تدريجي، من خلال التوسع في احتواء الحركة الصوفية الحديثة ورموزها، وزيادة حجم نشاطها داخلياً، فتم للمرة الأولى تسجيل حلقات متلفزة بنزعة صوفية للشيخ جابر بغدادي (أحد رموز المدرسة الصوفية المصرية)، من داخل المدينة المنورة، وتمت إذاعتها في رمضان الماضي على قناة "إقرأ"، تحت عنوان "حالة حب"، تحدت فيها عن علاقة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بأصحابه وأهل بيته الكرام.
ولا يمكن تجاهل تصريحات الدكتور إبراهيم السقاف القيادي بالطريقة العلوية في المملكة العربية السعودية، في أيار (مايو) 2018، التي قال فيها إن الطرق الصوفية تعيش أزهى عصورها في عهد الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان، وأن أتباعها يتجاوزون المليون صوفي.
وفي منتصف عام 2019، خصصت مجلة "الفيصل"، الصادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث، ملفاً بعنوان: "التصوّف من الهامش إلى الواجهة"، معتبرة أن الصوفية قادرة على إشاعة السلام وترسيخ قيم المحبة والتعايش والقبول بالآخر، وأنها حصانة ضد التعصب، في حين عرضت قناة "العربية" في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، حواراً مطولاً مع محمد بن بريكة، أستاذ التصوف والدراسات الإسلامية في جامعة الجزائر، للحديث عن خصائص الفكر الصوفي.
الخلاف الأشعري ـ السلفي تاريخي ومعاصر، بين مريدي الشيخ أبو الحسن الأشعري، الذي يدعم الدليل النقلي بمنطقية العقل، وبين تلامذة الشيخ أبو جعفر الطحاوي، ومن ورائه ابن تيمية (شيخهم الأكبر)، ومحمد بن عبد الوهاب، الذين قدموا الجمود على ظواهر الأدلة النقلية، من دون الاعتبار للأدلة العقلية.
يمثل كتاب "شرح الطحاوية في العقيدة السلفية"، دستور التيارات السلفية المعاصرة، بجانب الأطروحات الفقهية لابن تيمية الرافضة للاستدلال والقياس العقلي، رغم أن فتاويه خرجت في أوضاع غير مستقرة، شهد خلالها العالم العربي والإسلامي عشرات الانقسامات والصراعات السياسية والفكرية والمذهبية، فضلاً عن صياغة مؤلفاته بين جدران السجون، ما يجعل للعامل النفسي دوراً بالغاً في تطرفه وتشدده، وخروج مشروعه الفكري عن الوسطية والاعتدال المنهجي.
يعتبر كتاب "مفاهيم يجب أن تصحح"، للعالم الصوفي الراحل محمد علوي المالكي، أستاذ علم الحديث بمكة المكرمة وشيخ الطريقة "العلوية" السابق، من أهم الرسائل التي دافعت عن المذهب الأشعري، وردت على منعطفات ومزاعم المدرسة السلفية الوهابية.
التطاول على رموز المذهب الأشعري والحركة الصوفية المعاصرة، يديره حالياً عدد ليس بالقليل من أنصار المدرسة الوهابية الذين أدوا دور "اليوتيوبر السلفي" أمثال رامي عيسى، وتامر اللبان، وأحمد حربي، ومحمد شمس الدين، وهيثم طلعت، وأبو عمر الباحث مؤسس قناة "مكافحة الشبهات"، ومحمد سمير، وهشام السجيني، ومحمد أبو الوفا، وحسن أبو الأشبال، ومصطفى العدوي، وعلاء حامد، ونادر أشرف عبد الحي، ومحمد حسن عبد الغفار، وهاني حلمي، وأبو بكر القاضي، ونور الدين عيد.
ومن باب التضليل والتشتيت الفكري، دشنت التيارات السلفية صفحات تحمل أسماء أزهرية، مثل "كوكب الأزهريين"، و"طلاب جامعة الأزهر"، و"طلاب الأزهر"، في محاولة لاختطاف المؤسسة الأزهرية وتوجيه خطابها بما يتوافق مع المنهجية الوهابية.
في المقابل تحظى المدرسة الصوفية الحديثة، بعدد كبير من علماء الأزهر الشريف ودعاة وزارة الأوقاف المصرية، في مقدمهم الدكتور على جمعة، مفتي الدولة المصرية السابق، والشيخ أسامة الأزهري، مستشار رئيس الجمهورية، والدكتور عمرو الورداني، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، والدكتور مجدي عاشور، مستشار مفتى الديار المصرية، والدكتور محمد مختار مهنا، مستشار شيخ الأزهر، والمشرف على الرواق الأزهري، فضلاً عن الدكتور يسري جبر، والدكتور محمد عوض المنقوش، والشيخ جابر بغدادي، وقد تحدثنا عنها بشيء من التفصيل في مقال سابق.
ويتصدر مشهد الدفاع عن المدرسة الأشعرية حالياً، كل من الدكتور محمد سالم أبو عاصي، الأستاذ بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، والعميد السابق لكلية الدراسات العليا، ومؤلف كتاب "أشعري أنا"، المعني بالرد على إشكاليات المذهب السلفي، والدكتور محمد إبراهيم العشماوي، استاذ الحديث بجامعة الأزهر، والدكتور محمد وسام خضر، أمين الفتوى المكتوبة بدار الإفتاء المصرية، والدكتور مختار محسن محمد، أمين الفتوى بدار الافتاء، ومؤلف كتاب "الإشراقات عند الصوفية"، المعني بتقديم الأدلة الشرعية للكثير من القضايا في إطار قواعد وضوابط التصوف السنّي.
وكذلك الدكتور أحمد نبوي الأزهري، الأستاذ بجامعة الأزهر، والدكتور عصام أنس الزفتاوي، والدكتور عمر محمد الشريف، الباحث التاريخي، والشيخ أحمد البهي، إمام مسجد سيدي على زين العابدين، والدكتور عبد العزير معروف الأزهري الباحث في التراث الإسلامي، والشيخ أشرف سعد الأزهري، والشيخ أحمد العربي، مقدم الطريقة الصديقية الشاذلية، والدكتور أحمد خميس شتيه، والباحث محمود رمضان المكنى بـ"أبو حمزة الصوفي"، ومصطفى فريد، ومحمود مرسي حسن، وشهاب الدين الأزهري، وعبد الفتاح زارع ومحمد عبدالواحد الحنبلي.
*- شبوة برس ـ عن جريدة النهار